الطلاق / قصة قصيرة : للقاصة عسال مالكة .
الطلاق
جلس قرفصاء على حافة السرير، وأخذ يفرِك عينيه تارة، وأخرى يمَشّط أرجاءها، وابتسامة خفيفة تعلو محياه.." الآن لا صراخ أطفال، ولا نفاد السكر، ولا لمْ يبق شاي في البيت، ولا ابنُك في حاجة إلى حذاء رياضي، ولا (يخصني ثمن الحمام)" يتابع محاورا نفسه أحيانا ؛ وأخرى، يسقط مغشيا عليه في بحيرة التذكر؛ كيف كان يتجول في الأحياء بحثا عن غرفة ولو بحجم غار نملٍ، يلملم فيها شظاياه؛ يحمل في صدره غُصّةَ الهروب من مسؤولية، شيّد أسوارَها على تخطيط فاشل، مُغلقا الأبوابَ على مشاعره وضميره، ولقبٌ يعلو شموخا وتقديرا لدى مَن يُقدّرونه، بل مَن يسعى إليه حافيا، ليصنعَ من ذريته الامتداد، فيبني على مرآتها ذاتَه من جديد، ويعوضَ ما سلبَه الزمن منه، بإملاء فراغه بأساليبِ ترميم شقوق النفس، عن طريق التربية والتوجيه الصالحيْن.. لا ندري هل هي سياطُ الزمن تنهال على رأسه ويريد التخلص منها؟ أم هو فشل ذريع في تحمل المسؤولية ؟؟ أم هي أشياءٌ أخرى طائشة تحاول جرّ قدميْه إلى زاوية الزيْغ.. ؟؟ وهي في ركن قصي من الغرفة، تُمسك ورقة مبللة بالدموع، تداري صفعة قوية نزلت كالشبح من فتحات الأنانية والكبرياء؛ لتحفرَ في النفس جرحا نازفا، تاركة أثرا ناريا لا تطفئه هنات.. طوت الورقةَ بحنق، ورمتها في درج مهمل؛ ثم أخذت تقلب صفحات اللحظاتِ المرمريةَ المتعاقبةَ، حين كان يلتقيها متلهفا، يرتدي فروَ الحمل الوديع تحته ذئب رابض، يرشُقها بابتسامة رقيقة، يدسّ في لبّها مراوغةً ماكرة، ليزج بها في زِنزانته الغبية، كلماتٌ مهموسةٌ متكررة، تصاحبها نظرات دافئة متلاحقة محمّلةٌ بخديعة الحب، ليُقنعَها ببناء عش زوجي محترم، تُمتّن أركانَه سواري المودة ولَبناتُ التعاون؛ كلمات معسولة خدّرت التفكير، وفتحت أمَلا ورديا جعلَ القلبَ ينبض، مُشرِعا شرفاتِه على مصراعيْها.. فرضخت صاحبتُنا عن طيب الخاطر للأمر ..
هي وحيدة والديها، بضّة البَشرة شقراء، ملكتْ من الجمال قدْرا لابأس به، شمّع القدَر كلّ الطرق لاستشراف مستقبلٍ محترمٍ، ولم يُسعفْها الفقر لتنالَ من التعليم حظا، تَجْني من شجرته فاكهةً مرموقة.. فاندسّت مرغمَة في معملٍ، لترفعَ الجانب المائل من بيت استوطنته فوضى الشقاء، وسادَتْه الفاقة، لتُعيلَ عجوزين اقتبس الدهر منهما نبْعَ الشباب ..
وهو نطفة من البادية، أقبل من ثرى الحقول وعجرفة الأيام، يطارد الزمن راكضا خلف أحلام مختلّة؛ ليجد عملا في ورشة نجارة، يتخذها نهارا للاشتغال، وفي الليل غرفة متعددة الاختصاص؛ حققت له نسبيا استقرارا نفسيا محمودا...
كان يراها يوميا تمر من أمام الدكان، بيدها بعضُ المآرب، فتتعثر في أذيال نظراته المتعاقبة، تدغدغ مسمعَها كلمات مبهَمة لا تعرف معناها.. انفرد بها في يوم أسعفَه حظٌّ مباغت، تهدّمت على إثره جدران الاعتراض، وهيمنت أساليب القناعة والرضى... وكان ما كان .. أثمر التحامُهما بما يرضي الله صبيتين وصبيين.. فتكاثر العدد، واختل السند؛ وحتى تسد رمق الأفواه الأربعة الطرية بعد أن اشتد عودُهم ، خرجت بدورها، تبحث في أحضان الزمن عن بحبوحة دافئة، تصبح دعماً لها للتخفيف من ثقل نزلَ كالقدَر المحتوم على الظهر؛ تعُد ألسِنَة النهار المتلاحقة، وتَمشِط خُصُلاتِ الليلة المهفهفَة؛ تطوف بين القطبين، تنحت من لحمها وعظامها لتُطعِم فراخها الزغب.. أخرج من جيبه لفافةً غيرَ معهودةِ، وقنينةً وأخذ يحاورهما، يعلو مع نشوة كاذبة، وينحدر مع لحظة حقيرة ظنّها نورَ الحياة، مبتسما لإغراء وضعِه الجديد .. تنصلَ ببرودة الضمير من أفراد أسرته، وكأنهم أباعيرُ جرباءُ، ليبيع في سوق التشرد نقانقَ من كبده بأبخس ثمن، لم تهزّه قُشعريرة الدم، ولا فكّرَ في مَن سيكون لهم ظلاّ حامياً من نوائب الدهر، أو يمدَّهم بقُوتِهم اليومي.... بقيت الشّتَلات في حوض مُقْفرٍ، تكابدُ لفْحَ الشمس، وقلّة الارتواء، في مهب زمهرير، أو قَر عسير؛ تغرد في بطونها عصافير الجوع، اللهم أيدي والدتِهم البيضاءُ، التي تشققت كدّا، لتحافظ على نضارتها، حتى لا تذبل.. فتنمو وتكبرَ... وتنتفعَ من غِلالها...
عسال مالكة
