القائمة الرئيسية

الصفحات

من الوعي المأزوم الى القصيدة المحتضرة : تحليل وجودي ونفسي في ( وحيدا أنعي قصيدتي )

 



                             ** كلمة شكر ** 

شكرا لك دكتورة منال الشربيني  على هذه الدراسة النقدية الدقيقة جدا والفاحصة ، التي تناولت نقدا قصيدتي ( وحيدا  أنعي قصيدتي ) اعتمادا  على المنهج   التحليلونفسي  الذي يرصد كل الجوانب النفسية للنص ويستتمر فيه  كل بنية من خلال  المعارف الشاملة  حتى تنال نصيبها من متعة التحليل وترصد الوظائف التوليدية  دلاليا  كي يبدو المعنى جليا ويؤدي النص  وظيفته الفنية والأدبية والأخلاقية . فهذه الدراسة الأكاديمية  تنم عن جدارة  الدارسة  ومهنيتها  في المجال النقدي ويثبت للقارئ ان ، د/ منال الشربيني  تمهر بصدق وعبر نسق تقويمي فعال  في حصر التراكيب عبر  منهج تفكيكي  للمنظومة الأدبية بمختلف أجناسها . شكرا لك دكتورة على هذه القيمة النوعية التي رصعت  بها هذا النص الشعري ، وشكرا لك على المجهود الجبار الذي قمت به دراسة وتحليلا . 
كما أشكر  شبكة [ الديسك المركزي لجريدة  ديلي جراف عربية ] على نشر هذه الدراسة الماتعة  ، والشكر موصول كذلك إلى أطر الجريدة ومختلف توجهاتها الفكرية التي تعمل على  النهوض بخطها التحريري . 

محمد زغلال محمد 
المملكة المغربية .



من الوعي المأزوم إلى القصيدة المحتضرة: 
تحليل وجودي ونفسي في 
 "وحيدًا أنعي قصيدتي
" لـ محمد زغلال
        ** تحليل وإعداد: منال الشربيني ** 


أما قبل،
 حين قرأت القصيدة، وقفت طويلًا هنا، عند قوله الشاعر:

"تضيق بي القصيدة إلا من رداء امرأة"
فقلت في نفسي: " لو لم يكتب الشاعر سوى هذه الشطرة لتوجته شاعرًا بحروف كبيرة. من هنا ألج إلى عالم زغلال الشعري، تحليلًا، وتفكيكًا، لغةً، ودلالة..

أما بعد،
لابد أن نقف طويلًا عن دلالة العنوان: " وحيدًا، أنعى قصيدتي"، حيث تخبرنا لفظة " وحيدًا" المنصوبة على الحالية معاناة الذات الشاعرة من فرط الفقد، وجاءت الفعل " أنعى" في زمن المضارع، ليؤسس دوام كل من المعاناة السرمدية، إذ إنه لم تعد القصيدة/ المرأة/ الوطن/ الأرض، هنا، أو هناك أو في الماوراء؛ فـ النعى لا يكون إلا لميت، ولكنه عنوان ينبض فقدًا من فرط الحياة، وبالطبع، يفترض ذكر الفعل "أنعى" وجود موت، ولكنه هنا موت رمزي لا جسدي. 

إن نعي القصيدة هو في جوهره نعي الوظيفة الشعرية، للغة، وربما للذات المبدعة نفسها (محمد، ب.ت). هذا المفهوم يتناص بوضوح مع "موت الشاعر" (Death of the Poet) كتعبير عن عجز الكلمة، وهي فكرة طرحها أدونيس (أدونيس، ب.ت) وأنسي الحاج. أما "قصيدتي"، فلا تدل على قصيدة محددة، بل على القصيدة كفكرة مجردة ومصير، مما يجعل الشاعر يرثي الشعر ذاته أو قدره الشعري (محمد، ب.ت).

 من منظور التحليل النفسي، يكشف العنوان عن صراع نفسي عميق. وفق نظرية جاك لاكان، تُمثّل القصيدة "المرآة" التي تتشكل من خلالها صورة الذات الشاعرة، ونعيها هو بمثابة كسر لتلك المرآة، ما يؤدي إلى تفكك صورة "الأنا" (لاكان، ب.ت). كما تُشير "وحيدًا" إلى انفصال عن "الآخر الكبير" (Other)، سواء كان ذلك المتلقي، المجتمع، أو القصيدة نفسها بوصفها سلطة رمزية (لاكان، ب.ت).

 وبقدر ما يوحي العنوان بالتوتر النفسي العميق الذي تعانيه الذات الشاعرة، يلعب الألم دور البطولة، وتلعب الحياة دور الموتى، ناهيك عن العزلة الوجودية التي تشير إليها لفظة" وحيدًا"، حيث تعكس الوحدة وحشة المنفى، والغربة، التي لا تقتصر على غياب الآخر فقط، بل تعكس غياب المعنى، وانقطاع الشاعر عن العالم من حوله، وهنا نرى تماسًا مع شعر أبى العلاء المعرَّى، وبدر شاكر السياب (السيّاب، ب.ت)، حيث ينبع الإبداع غالبًا من "الوعي المأزوم" (محمد، ب.ت).
أما من منظور كارل يونغ، تجسِّد القصيدة "الأنيموس" (الوجه الإبداعي من النفس)، وفقدانها يدل على اضطراب داخلي بين "الأنا" و"اللاوعي الجمعي" (يونغ، ب.ت). وتعكس كلمة "وحيدًا" في اللاوعي الشعري نفي "الذات الظل" أو الذات العميقة (يونغ، ب.ت).

على صعيد التناص والتشابه، يتشابه النص مع السيّاب (في أنشودة المطر) في الحزن على الشعر كوظيفة خائبة، حيث يرى الشاعر أن "حين يمرض الشعر، يموت مرتين" (السيّاب، ب.ت). هذا، و يتناص العنوان مع درويش عبر كلمة "وحيدًا"، التي تستحضر عبارته "وأنا وحدي، كما كنت دائمًا..." في (لماذا تركت الحصان وحيدًا؟) (درويش، ب.ت). بينما تُشير الوحدة لدى درويش إلى تفكيك الهوية والمنفى، تعكس لدى زغلال بعدًا وجوديًا-إبداعيًا (محمد، ب.ت).

 يتجلى التناص مع أدونيس في ثيمة موت القصيدة؛ يرى أدونيس في التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل أن "كأن القصيدة موت آخر" ويُعلي من فكرة موت القصيدة وانبعاثها، بينما يُحاكيها زغلال بلغة أكثر انكسارًا (أدونيس، ب.ت)، كما يتردد صدى صورة القصيدة الميتة في قول بيسوا: "أنا القصيدة التي ماتت في منتصفها"، مما يُظهر سياقًا وجوديًا كونيًا مشتركًا (بيسوا، ب.ت).

تحضر المدرسة الرمزية عبر تحويل القصيدة إلى رمز للذات أو الوجود، واستخدام معجم رمزي كثيف مثل "مصابيح، العرش، الياقوت، الحناء" (محمد، ب.ت)، وهذا يتفق مع اتجاهات الشعر الرمزي الفرنسي (مثل بودلير ورامبو)، حيث يحل الإيحاء والغموض محل البيان الصريح، وتُستخدم المجازات المركبة والاشتباك بين الحسي والميتافيزيقي (Baudelaire, 1993). تتجلى المدرسة الحداثية في نفي مركزية المعنى، والتعبير عن العجز اللغوي، حيث القصيدة لا تحتفي بالقول بل ترثيه (الخال، 1983). بينما تبرز المدرسة الوجودية في التوتر بين الذات والعالم، بين الرغبة والعدم، وفي طرح أسئلة الهوية والمعنى (مكاوي، 1992)، إذ يظهر البعد الوجودي في الشعور بالوحدة والعبث واللاجدوى ("وأنا مجرد مهرج... عن منفذ إليك")، وفي إلحاح فكرة الانتظار والخلاص ("إلى أن أبعث من جديد") (محمد، ب.ت).
بين الحب والإنكار، يفتتح الشاعر النص بعبارة "كيف أنكر أني أحبك" التي تُشير إلى صراع داخلي مأزوم بين الاعتراف والإنكار، والإرادة واللاشعور (محمد، ب.ت)، و بين الفقد والنسيان، اللذين يبرزان في صورة "رأيت ذاكرتي تمحو مصابيح الورد" تظهر قدرة الذاكرة على هدم الجمال (محمد، ب.ت)، و بين التقديس والاحتفاء من خلال توظيف مناخات طقوسية و ميتافيزيقية، حيث يصبح الحب طقسًا دينيًا أو شعريًا، كما في "تخرج من القلب كـ المرثية... أردد مع الآلهة: لبيك" (محمد، ب.ت). كما تبرز دلالة "العصافير" التي تمثل المعادل الموضوعي للحرية/ الروح، لكنها هنا "عالقة" بما يشي بالكبت (محمد، ب.ت).  وبين الحسي والمعنوي تبرز ألفاظ مثل"الياقوت"/ الفخامة والقداسة، "الحِناء" رمز أنثوي تقليدي، تبرز الرموز الإيحائية مثل "كأس الرمان" و"الرضاب" (محمد، ب.ت).

على صعيد البناء الفني، مزجت لغة النص بين الحسية والغنائية، فهي مزيج بين الجسد والعاطفة والتجربة الشعرية، وهنا، نسجل أن الصور الشعرية وردت في القصيدة متداخلة، وذات طابع سريالي ("العصافير عالقة بعرش الياقوت") (محمد، ب.ت).

اعتمد الإيقاع الداخلي على الإيقاع الحر، مع نبرة تأملية حزينة، وغنائية، وهذا يبدو جليًا عند تكرار بعض الأصوات المفتوحة/ المدّْ (مثل الألف والياء) مما يعمق الإحساس بالفقد، والحنين (محمد، ب.ت).

 لأنني، على نحوٍ خاص، أفضل عرض النموذج محل الدراسة كي يطَّلع عليها القاريء، حتى يكون كلامنا مبنيًا على بينة، وليس على رؤية أحادية، فهذا حق القاريء عليَّ كناقد حيادي تمامًا، حين يتعلق الأمر باللغة والإبداع.

قدمت هنا، بعض قراءةٍ لـ قصيدة  زغالي، م." وحيدًا أنعى قصيدتي".. إليكم القصيدة:

وحيدا أنعى قصيدتي - 

--٢--

كيف أنكر أني أحبك 
وقد رأيت ذاكرتي 
تمحو مصابيح الورد  
عن وجنتيك 
رأيت العصافير عالقة بعرش الياقوت 
تخفي مفاتنها تحت نعليك 
رأيت الأصوات الساحرة 
تخرج من القلب كالمرثية المبهمة 
تعلمني كيف أردد مع الآلهة 
 لبيك 

أريد أن أمشي شامخا  
أن أستجمع ما تبقى من فصوص الملح 
في عينيك 
يا هذه التي تعتبرني شاعرا 
وأنا مجرد مهرج ، يبحث في قبعته
عن منفذ إليك 

سأبقى ها هنا 
إلى أن أبعث من جديد ، كأهل الكهف 
إلى أن يستفيق آدم من رعشته المخمورة 
ويبحث عن وجهك المتفسخ 
في فورة الجسد 
كما تبحث الحناء عن لونها 
في كفيك 

تضيق بي القصيدة إلا من رداء امرأة 
ملتاعة بشهوتها 
المحشوة  في كأس 
نصفه  ريق رمان 
ونصفه الآخر 
 رضاب من شفتيك .

محمد زغلال محمد.
....
المصادر
أدونيس. (1995). أغاني مهيار الدمشقي. بيروت: دار الآداب.
أدونيس. (ب.ت). التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل.
Baudelaire, C. (1993). The Flowers of Evil. Oxford: Oxfor University Press.
بيسوا، ف. (ب.ت). [اقتباس من أعمال بيسوا].
درويش، م. (2003). جدارية. بيروت: رياض الريّس.
درويش، م. (ب.ت). لماذا تركت الحصان وحيدًا؟.
Freud, S. (1953). The Interpretation of Dreams. Standard Edition, Vol. IV-V. London: Hogarth Press.
الخال، يوسف. (1983). الحداثة في الشعر العربي. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
لاكان، ج. (ب.ت). [استنتاج من نظرية لاكان العامة].
محمد، م. ز. (ب.ت). وحيدًا أنعي قصيدتي.
مكاوي، عبد الغفار. (1992). الفكر الوجودي. القاهرة: دار المعارف.
السيّاب، ب. ش. (ب.ت). أنشودة المطر.
يونغ، ك. ج. (ب.ت). [استنتاج من نظرية يونغ العامة].


Kommentare

التنقل السريع