من حيث لا أدري:
وأنا في طريقي إليه، مررتُ على الإسكافيّ والحداد والخضار والفاكهاني، والبنّاء.. ثم على الجزار والعطار (بائع التوابل)، ثم عرّجت على الأستاذ في المدرسة المجاورة، ثم محام يصرخ بأدنى صوته، في حضرة الهيئة الموقرة، كلهم كانوا يصهلون بأصوات مختلفة الطبقات، منها الضعيف ومنها العنيف.. إلى أن وصلتُ إليه، إلى ذلك الحي الذي سمع صرختي عندما صُفعتُ، من حيث لا أدري وأنا أتجرع شهقتي الأولى من حياة...
كان هناك يجلس على كرسي خشبي مهترئ، يدخن غليونه (السبسي)، الذي ورثه عن والده با المعطي الفران، الحكواتي الذي ما كان يكلَّ من سرد بطولاته
الخرافية، أيام حرب لاندوشين، إبان الحرب العالمية الأولى أو الثانية، لا أذكر، لا أريد أن أذكر، لأنه تاريخ لا يهمني في شيء، أقحم أبناء وطني في فوهة المدفع، ليحرروا أرضا ليست لهم..
وجدته هناك يتلذذ بالنظر إلى ظلي، لأني كنت قد عبرتُ إلى الجهة المقابلة، حتى لا يلاحظ رجفتي... كنت أختلس النظرة بين الفينة والفينة، وأنا أنادي على بنت الجيران، التي لم تكن تعيرني ولا أنا أعيرها اهتماما من قبل.. تلتفت غير عابئة وهي تلوح بيدها وتمشي..
ألوح أيضا بابتسامتي الشاردة، وأنا ألتقط وشوشات عابرة تتغزل بالعابرات..
ومن حيث لا أدري، أمسكت بقبضة من تراب وشتتها على وجهه الهزيل، اختلطت حبات التراب بأدخنة غليونه في حلقه.. فاشتد سعاله وهو يلعنني بصوت يشبه انفجارا من بندقية أبيه..
كنت منتشية بما فعلت..
لم أرد على لعنته بلعنة مماثلة..
تكفيه غصة رمالي في حلقه...
سعدية بلكارح
المملكة المغربية
Comments
Post a Comment